آخر الدادائيين: فالترميهرنغ


بقلم- توماس فروهلنغ

ترجمة: قاسم مطر التميمي

في سنة 1916 ولدت دادا Dada وعام 1922 ماتت دادا. في سنة 1919 ظهرت (المستقبلية) في ايطاليا وامتد تأثيرها الى بلدان اوربية اخرى مثل انجلترا وروسيا لترفض الماضي وتحرق كل الجسور التي ترتبط به (المتاحف، الاثار، المكتبات... الخ) وتمجد الحركة والسرعة والحرب ايضاً.
وتندلع الحرب وتلتهم الخنادق ملايين من بني البشر، وتلهج الاناشيد القومية بتمجيد الابطال الذين اوقدوا نارها. وان هذا العالم الذي يذبح البشر ويبني لذكراهم قوساً للنصر، هذا العالم يستحق ان يسفه ويزدرى، وينطلق من احد شوارع زيوريخ صوت يدعو الى الفوضوية والعدمية، صوت تهريجي يدعو الى تغيير العالم مردداً بذلك كلمات رامبو، هذا الصوت هو صوت (دادا) الحركة التي تحمل عبث الطفولة وبراءتها، صخبها وتطلعاتها.
وهتفت دادا بسقوط الفن ودعت الى فن مضاد، بل دعت الى الغاء الفن في سورة من سوراتها. اما في الأدب فقد حاولت تجاوز الكلمة، واحياناً الغاءها. وفي الموسيقا تجاوز النوطة وادخال الضوضاء والاصوات اللاموسيقية. وحاولت ايجاد لغة عامة مشتركة بين الفنون. وفي برلين ظهرت الدادائية بعد الحرب العالمية الاولى مباشرة، وقد رفع لواء هذه الحركة الاخوان (ويلانو ويوهان هيرسفيلده) وفرانزيونغ، وراؤول هاوسمان ويوهانس بادر، وريتشارد هولزنبك والرسام جورج جروز، وفالتر ميهرنغ. وكان هذا الاخير آخر من بقي من الدادائيين وآخر من رحل منهم. وقد التقته مجلة plus قبيل وفاته في دار للمسنين قرب مدينة زيوريخ السويسرية فكان هذا الحديث: بدا (فالترميهرنغ) مفزعاً لمن يراه للوهلة الاولى: شعر منفوش اشيب بلون القطن وساقان عليلتان متدثرتان بغطاء صوفي وذقن غير حليقة منذ اربعة ايام، يجلس متراخياً فوق اريكة جلدية كبيرة في مواجهة صف من البيوت الشعبية. الغسيل فيها يملأ الشرفات وصباغ يقف فوق الصقالات وغابة من الهوائيات فوق اسطح المنازل تحجب ضوء النهار. اما ما يراه من الحياة: (ليس منظراً جميلاً).
دار المسنين (آرلنهوف) الواقعة خلف محطة قطار البضائع في زيوريخ كانت آخر دار مقام للرجل المولود في (باراندنبورغ) الذي كتب عن (كورت توخولسكي) سنة 1920 قائلاً: (اذا كان الزمن المعاصر يجود علينا بشاعر معاصر؛ فمكانه هنا). وما زال يتحدث حتى اليوم عن توخولسكي بوصفه صديقه الحقيقي الوحيد. ويؤلمه ان لا يكون قد عرف دواخل نفس هذا الصديق في ذلك الحين : " انا نفسي انخدعت بتوخولسكي، لم اكن اعلم انه في حقيقته انسان يائس، لم يدر بخلدي قط انه سينتحر عام 1936.
على الرغم من هذه الصداقة والكثير من الاصدقاء والصديقات فقد بقي فالتر ميهرنغ دائماً رجلاً نفوراً، بل ومتبرماً، وكان بذلك ابن ابيه (زيغمار) الذي سجن سنة 1899 لمدة ستة اشهر لمهاجمته الحلف القائم بين الكنيسة والبرجوازية والجيش في الجريدة الهزلية (اولك) ulk . وبعد ثلاث وثلاثين سنة رغب احد رموز السلطة الجديدة آنذاك في ان يعلق الابن على حبل المشنقة. ففي خطابه بمناسبة اعياد الميلاد 1932- 1933. قال يوسف غوبلز: ( في السنة القادمة نحن موجودن. وسأقوم شخصياً بتأديب اربعة من المتوحشين الاذكياء؛ الفريد كير وتوخولسكي واوزيتسكي وميهرنغ) ، وكان غوبلز يعلم عمن يتحدث، فهذه الاسماء الاربعة تقف الى جانب الثقافة الملتزمة في عقد العشرينيات في المانيا وميهرنغ زعيمهم.
ابتداءً من توخولسكي الذي صحبه الى (مسرح العالم) ومن ماكس رانهاردت بوصفه مؤلف الكاباريه الذي جاء به الى (الدوي والدخان)، ومن ارون بسكاتور الذي لعب دور مؤلف مسرحي، ومن الناشرين كورت فولف وكيبن هوير. وس. فشر الذي تقرب اليه كمؤلف ومشارك في تأسيس الدادائية ذلك الاتجاه الفني الذي هضم العقل الباطن وسبق السريالية- كان ميهرنغ ايضاً الشخص المسيطر على مقهى (جنون العظمة). هنا يتردد رجال ذوو امزجة مختلفة مثل؛ (بيتر هله) و (ارش موهزام)، و (الزالاسكر- شولر)، وكذلك (جوتفريد بن)، و ( جورج تراكل)، و (ثيودور دبلر). وعلى الشرفة يمثل الرسام (جورج جروز) مرتدياً جاكيتة من قماش مربعات كبيرة وطالياً وجهه بمسحوق ابيض، يمثل (الرجل الاكثر حزناً في اوربا، كما يقول ميهرنغ).
جورج جروز كان ثاني اهم رجل في حياة مهرنغ، لقد رسمه جروز (كما رسمه فيما بعد كورت شفترز وودورنمات) ولكن الصورة فقدت في الرايخ الثالث. (يقول ميهرنغ: كانت افضل صورة بورتريت رسمت لي). وقد استضاف جروز لفترة من الزمن المهاجر ميهرنغ عندما رحل الى الولايات المتحدة الامريكية. ويتذكر ميهرنغ ذاك الزمان بمرارة من كتب عليه الترحال الابدي ويتمنى لو انه بقي هناك: (كان وقتاً جميلاً، هناك عند جورج جروز. كنت كناظر في مستودع يقع على البحر مباشرة، ليتني ما رحلت من هناك، خصوصاً من البحر). ويتمنى ان تتاح له الفرصة لمشاهدة البحر ثانية: (اتمنى مرة واحدة في حياتي ان ارى البحر ثانية، ربما الاطلسي ولكنه بعيد، وهي امنية لن تتحقق). حصل الالماني فالترميهرنغ على الجنسية الامريكية غير انه لم يلبث في امريكا طويلاً، اذ تركها ليظهر في برلين نهاية عقد الخمسينيات، ثم يمم وجهه صوب باريس واخيراً في القطاع الفرنسي من سويسرا. يقول : " انا في المنفى منذ 29/ نيسان/ 1896". تاريخ ولادته. والان وقد اقعده المرض - تخثر في كلا الساقين- حال بينه وبين التجوال والترحال فكانت هذه الدار -دار المسنين في ايرلنهوف- زيوريخ محطته الاخيرة.
قلما يأتي لزيارته احد، ورفاق حياته القدامى رحلوا جميعاً منذ سنين. وهذه العزلة تؤلمه وتعتصر قلبه: (طبعاً انا اعرف هاينرش بول وجونتر جراس. كانوا دائماً ودودين معي، لا اكثر، اتمنى ان يكون لي اتصال مع الادباء الالمان ولكنهم لم ياتوا لزيارتي).
حقاً ان اعمال هذاالشاعر الالماني الوجداني قد نسيت او اقصيت. وقد جرى الحديث عنه مرة وكتب عنه احياناً اخرى، كما في الكتاب الذي الفه (رانهارت ماير) الموسوم بـ (دادا في زيوريخ وبرلين) والصادر سنة 1973. ما الذي بقي في المانيا من فالترميهرنغ؟ بقيت فيها الاغنية الشعبية (فتيات سان باولي) ترددها حنجرة المطرب (هانز البيرت) دون ان يعلم الكثيرون ان الذي كتبها فالترميهرنغ.
والرجل الذي اضناه التجوال والترحال من بلد لآخر حتى اقعده المرض والشيخوخة في اخريات ايامه، اضاع حقيبة كبيرة ملأى باشعاره ورسائله ومنها رسائل متبادلة له مع توخولسكي. وواحدة اخرى ملأى بتخطيطاته ورسوماته، ومنها رسومات كثيرة شارك فيها في معارض اقيمت في عقد العشرينيات من القرن الماضي، يقول الشاعر: (لقد انجزت الكثير من التخطيطات: منها لوحات كبيرة عن الريف والطبيعة والبورتريت والمدن الكبيرة واني لآمل في ان يعثر عليها احد في مكان ما).
ولا يحتفظ ميهرنغ طوال هذه السنين الكثيرة الا بملف رقيق تزينه الازهار يحمله معه اينما تنقل وارتحل. يضم بين دفتيه بضع لوحات لروايته (الجزائر- او الواحات الثلاث عشرة العجيبة) التي نشرت لاول مرة سنة 1927 واعيد طبعها مرة ثانية سنة 1980. قال ميهرنغ قبل ان نودعه: (اني اشتغل الان لانجاز كتاب عن - سويفت swift - واتمنى ان افرغ من تأليفه قريباً، واتمنى ايضاُ ان ارى البحر في يوم ما!).